فصل: تفسير الآيات (90- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (90- 92):

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً} يعني وقال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم لئن اتبعتم شعيبا على دينه وتركتم دينكم وملتكم وما أنتم عليه {إنكم إذاً لخاسرون} يعني إنكم لمغبونون في فعلكم {فأخذتهم الرجفة} يعني الزلزلة الشديدة {فأصبحوا في دارهم جاثمين} قال ابن عباس وغيره: فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عيلهم حراً شديداً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض من تحتهم فاحترقوا كاحتراق الجراد في المقلاة وصاروا رماداً، وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر حتى هلكوا بها. وقال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أهل مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة هلكوا جميعاً. قال أبو عبد الله البجلي: كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة اسمه كلمن فلما هلك قالت ابنته شعراً تبكيه وترثيه به:
كلمن هدم ركني ** هلكه وسط المحلهْ

سيد القوم أتاه ** هلك نار تحت ظلهْ

جعلت ناراً عليهم ** دارهم كالمضمحلهْ

وقوله تعالى: {الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها} يعني كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوها يوماً من الدهر يقال: غنيت بالمكان أي أقمت به. والمغاني: المنازل التي بها أهلها واحدها مغنى قال الشاعر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في ظل ملك ثابت الأوتاد

أراد أقاموا فيها وقيل في معنى الآية كأن لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين يقال: غني الرجل إذا انغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر {الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} يعني خسروا أنفسهم بهلاكهم.

.تفسير الآيات (93- 97):

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)}
{فتولى عنهم} يعني فأعرض عنهم شعيب شاخصاً من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} يعني أنه قال لهم ذلك لما تيقن نزول العذاب بقومه واختلفوا هل كان ذلك القول قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه الصلاة والسلام وقوله: {فكيف آسى} يعني أحزن {على قوم كافرين} والأسى أشد الحزن وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان فلما نزل بهم ما نزل من العذاب عزى نفسه فقال كيف أحزن على قوم كافرين لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر. وقيل في معنى الآية إن شعيباً قال لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم يعني إنكم لستم مستحقِّين لأن يحزن عليكم.
فعلى القول الأول: إنه حصل لشعيب حزن على قومه.
وعلى القول الثاني: لم يحزن عليه والله أعلم.
وقوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي} فيه إضمار وحذف تقديره فكذبوه {إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} قال ابن مسعود: البأساء الفقر والضراء المرضى وهو معنى قول الزجاج: فإنه قال البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض. وقيل: البأساء الشدة وضيق العيش والضراء الضر وسوء الحال {لعلهم يضرعون} يعني إنما فعلنا بهم ذلك لكي يتضرعون ويتوبوا والتضرع الخضوع والانقياد لأمر الله عز وجل والمراد من هذه الآية أن الله عز وجل لما عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوال الأنبياء مع أممهم المكذبة وقص عليه من أخبارهم وعرفه سنته في الأمم الذين خلقوا من قبله وما صاروا إليه من الهلاك والعذاب عرفه في هذه الآية انه قد أرسل رسلاً إلى أمم أخر فكذبوا رسلهم فأخذهم بالبأساء والضراء كما فعل بمن كذب برسله وفيه تخويف وتحذير الكفار قريش وغيرهم من لكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب ثم بين تعالى أنه لا يجري تدبيره في أهل القرى على نمط واحد وسنة واحدة إنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب وهو قوله تعالى: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} لأن ورود النعمة على البدن والمال بعد الشدة والضيق يستدعي الانقياد للطاعة والاشتغال بالشكر. قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل فالسيئة والحسنة هنا الشدة والرخاء. والمعنى أنه تعالى بدل مكان البأساء والضراء النعمة والسعة والخصب والصحة في الأبدان فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله: {حتى عفوا} يعني أنه فعل ذلك بهم حتى كثروا وكثرت أموالهم.
يقال: عفا الشعر إذا كثر وطال. قال مجاهد: حتى كثرت أموالهم وأولادهم {وقالوا} يعني من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء والسعة {قد مس آباءنا الضراء والسراء} يعني أنهم قالوا هكذا عادة الدهر قديماً وحديثاً لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدة والضراء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونواعلى ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم مما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى: {فأخذناهم بغتة} يعني أخذناهم فجأة آمن ما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم {وهم لا يشعرون} يعني بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب.
قوله عز وجل: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} لما بين الله تعالى في هذه الآية الأولى {إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم بعذابه} بين في هذه الآية أنهم لو آمنوا يعني بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمرهم به واتقوا يعني ما نهى الله تعالى عنه وحرمه عليهم {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} وبركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه على عباده. وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء وسمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه وكذا ثبوت البركة في نابت الأرض لأنه نشأ عن بركات السماء وهي المطر. وقال البغوي: أصل البركة المواظبة على الشي. أي تابعنا عليهم بالمطر من السماء والنبات من الأض ورفعنا عنهم القحط والجدب {ولكن كذبوا} يعني فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا يعني الرسل {فأخذناهم} يعني بأنواع العذاب {بما كانوا يكسبون} يعني أخذناهم بسبب كسبهم الأعمال الخبيثة.
قوله تعالى: {أفأمن أهل القرى} هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وتهديد وزجر، والمراد بالقرى مكة وما حولها، وقيل: هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا {أن يأتيهم بأسنا} يعني عذابنا {بياتاً} يعني ليلاً {وهم نائمون}.

.تفسير الآيات (98- 101):

{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)}
{أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى} يعني نهاراً لأن الضحى صدر النهار {وهم يلعبون} يعني: وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم. والمقصود من الآية أن الله خوفهم بنزول العذاب وهم في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على الإنسان التشاغل فيه بأمور الدنيا، وأمور الدنيا كلها لعب ويحتمل أن يكون المراد خوضهم في كفرهم وذلك لعب أيضاً لأنه يضر ولا ينفع {أفأمنوا مكر الله} يعني استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا وقيل: المراد به أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون، وعلى هذا الوجه فيكون بمعنى التحذير وسمي هذا العذاب مكراً لنزوله وهم في غفلة عنه لا يشعرون به {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} يعني أنه لا يأمن أن يكون ما أعطاهم من النعمة مع كفرهم استدراجاً إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين {أو لم يهد} أو لم يبين {للذين يرثون الأرض من بعد} هلاك {أهلها} الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} يعني لو نشاء أخذناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم {ونطبع} أي نختم {على قلوبهم فهم لا يسمعون} يعني لا يسمعون موعظة ولا يقبلون الإيمان ونطبع منقطع عما قبله والمعنى قبله والمعنى ونحن نطبع على قلوبهم ويجوز أن يكون معطوفاً على الماضي ولفظه لفظ المستقبل والمعنى لو شئنا طبعنا على قلوبهم {تلك القرى} يعني هذه القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب {نقصّ عليك من أنبائها} يعني نخبرك عنها وعن أخبار أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم يا محمد إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائنا وأعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم وبمخالفتهم رسلهم ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم {ولقد جاءتهم} يعني لأهل تلك القرى {رسلهم بالبينات} يعني جاءتهم رسلهم المعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} اختلف أهل التفسير في معنى ذلك فقيل: معناه فما كانوا هؤلاء المشركين الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم رسلهم بما كذبوا من قبل ذلك وهو يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب وهذا معنى قول ابن عباس والسدي. قال السدي: آمنوا كرهاً يوم أخذ الميثاق، وقال مجاهد: ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ومعاينتهم العذاب ليؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم وقيل معناه فما كانوا يؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق لهم في علم الله أنهم يكذبون به حين أخرجهم من صلب آدم عليه الصلاة والسلام.
قال أبيّ بن كعب: كان سبق لهم في علمه يوم أقروا له بالميثاق أنهم لا يؤمنون به وقال الربيع بن أنس يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم وأن لا يتأولوا علم ما أخفى الله تعالى عنهم فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون وفي ذلك قال تعالى: {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} قال: نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في صلب آدم عليه الصلاة والسلام. قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب قول أبيّ بن كعب والربيع بن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبداً وقد كان سبق في علم الله لمن هلك من الأمم الذين قص خبرهم في هذه السورة أنهم لا يؤمنون أبداً فأخبر عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم مكذبون به في سابق علمه قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} يعني كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك.

.تفسير الآيات (102- 107):

{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)}
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد} يعني وما وجدنا لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية الذين قصصنا خبرهم عليك يا محمد من وفاء بالعهد الذي عهدناه إليهم وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق قال ابن عباس إنما أهلك الله أهل القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} أي ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين خارجين عن طاعتنا وأمرنا قوله عز وجل: {ثم بعثنا من بعدهم} يعني ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام {موسى بآياتنا} يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك من الآيات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام {إلى فرعون وملئه} قيل إن كل من ملك مصر كان يسمى فرعون في ذلك الزمان مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى وملك الروم قيصر وملك الحبشة النجاشي وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط والملأ إشراف قومه وإنما خصوا بالذكر لأنه إذا آمن الأشراف آمن الأتباع {فظلموا بها} يعني: فجحدوا بها لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة فكفروا بها ووضعوا الكفر موضع الإيمان {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي: انظر يا محمد بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين} يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما دخل على فرعون دعاه إلى الله تعالى وإلى الإيمان به وقال له إني رسول الله أي مرسل إليك وإلى قومك من رب العالمين يعني أن الله الذي خلق السموات والأرض وخلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم هو الذي أرسلني إليك {حقيق} أي واجب {على أن لا أقول على الله إلا الحق} يعني إني رسول والرسول لا يقول على الله إلا الحق في وصفه وتنزيهه وتوحيده وأنه لا إله غيره {قد جئتكم ببينة من ربكم} يعني ببرهان على صدقي فيما أدعي من الرسالة والمراد ببينته معجزته وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم فقال موسى {فأرسل معي بني إسرائيل} يعني خلِّ عنهم وأطلقه من أسرك وكان فرعون قد استعبد بني إسرائيل واستعملهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب ونحو ذلك من الأعمال الشاقة {قال إن كنت جئت بآية فأتِ بها إن كنت من الصادقين} يعني أن فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام بعد تبليغ الرسالة: إن كنت جئت من عند من أرسلك ببينة تدل على صدقك فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك فيما قلت {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} أي بيِّن، ولاثعبان الذكر من الحيات وصفه هنا بأنه ثعبان والثعبان من الحيات العظيم الضخم ووصفه في آية أخرى بأنه جان والجان الحية الصغيرة والجامع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان.
قال ابن عباس والسدي: إن موسى لما ألقي العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعاً وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة ليحها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون فتأخذه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث وقيل إنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وقيل: إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا وقتل بعضهم بعضاً فمات منهم في ذلك اليوم خمسة وعشرون ألفاً ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فعادت في يده عصا كما كانت وفي كون الثعبان مبيناً وجوه:
الأول: أنه تميز وتبين ذلك عما عملته السحرة من التمويه والتلبيس وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تمويه السحرة وتخليهم.
الوجه الثاني: أنهم شاهدوا العصا انقلبت حية ولم يشتبه ذلك عليهم فذلك قال ثعبان مبين أي بيِّن.
الوجه الثالث: إن ذلك الثعبان لما كان معجزة لموسى عليه الصلاة والسلام كان من أعظم الآيات التي أبانت صدق قول موسى عليه الصلاة والسلام في أنه رسول من رب العالمين.